الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **
كان شيخو أتابك العساكر قد ارتاب بصاحبه طاز فداخل الأمراء بالثورة بالدولة وتربص بها إلى أن خرج طاز سنة خمس وخمسين إلى البحيرة متصيداً وركب إلى القلعة فخلع الصالح ابن بنت تنكز وقبض عليه وألزمه بيته لثلاث سنين كوامل من دولته. وبايع لحسن الناصر أخيه وأعاده إلى كرسيه وقبض على طاز فاستدعاه من البحيرة فبعثه إلى حلب نائباً. وعزل أرغون الكاملي فلحق بدمشق حتى تقبض عليه سنة ست وخمسين وسيق إلى الإسكندرية فحبس بها وبلغ الخبر بوفاة الشمسي الأحمدي نائب طرابلس وولى مكانه منجك. واستبد شيخو بالدولة وتصرف بالأمر والنهي. وولى على مكة عجلان بن رميثة وأفرده بإمارتها وكانت له الولاية والعزل والحل والعقد سائر أيامه واعتمده الملوك من النواحي شرقاً وغرباً بالمخاطبات. وكان رديفه في حمل الدولة سرغتمش من موالي السلطان والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده بمنه. مهلك شيخو ثم سرغتمش بعده واستبداد السلطان بأمره لم يزل شيخو مستبداً بالدولة وكافلاً للسطان حتى وثب عليه يوماً بعض الموالي بمجلس السلطان في دار العدل في شعبان سنة ثمان وخمسين واعتمده في دخوله من باب الإيوان وضربه بالسيف ثلاثاً أصاب بها وجهه ورأسه وذراعيه فخر لليدين ودخل السلطان بيته وانفض المجلس. واتصلت الهيعة بالعسكر خارج القلعة فاضطربوا واقتحم موالي شيخو القلعة إلى الإيوان يقدمهم خليل بن قوصون وكان ربيبه لأن شيخو تزوج بأمه فاحتمل شيخو إلى منزله. وأمر الناصر بقتل المملوك الذي ضربه فقتل ليومه وعاده الناصر من الغد وتوجل من الوثبة أن تكون بأمره. وأقام شيخو عليلاً إلى أن هلك في ذي القعدة من السنة وهو أول من سمي الأمير الكبير بمصر. واستقل سرغتمش رديفه بحمل الدولة. وبعث عن طاز فأمسكه بحلب وحبسه بالإسكندرية وولى مكانه الأمير علياً المارداني نقله إليها من دمشق وولى مكانه بدمشق منجك اليوسفي. ثم تقبض السلطان على سرغتمش في رمضان سنة تسع وخمسين وعلى جماعة من الأمراء معه مثل مغلطاي الدوادار وطشتمر القامسي الحاجب وطنبغا الماجاري وخليل بن قوصون ومحا السلحدار وغيرهم وركب مواليه وقاتلوا مماليك السلطان في ساحة القلعة صدر نهار ثم انهزموا وقتلوا واعتقل سرغتمش وجماعته المنكوبون بالإسكندرية وقتل بمحبسه لسبعين يوماً من اعتقاله. وتخطت النكبة إلى شيعته وأصحابه من الأمراء والقضاة والعمال. وكان الذي تولى نكبة هؤلاء كلهم بأمر السلطان منكلي بيبقا الشمسي. ثم استبد السلطان يملكه واستولى على أمره وقدم مملوكه بيبقا القمري وجعله أمير ألف. وأقام في الحجابة الجاي اليوسفي. ثم بعثه إلى دمشق نائباً واستقدم منجك نائب دمشق. فلما وصل إلى غزة استتر واختفى فولى الناصر مكانه بدمشق الأمير علياً المارداني نقله من حلب وولى على حلب سيف الدين بكتمر المؤمني. ثم أدال من علي المارديني في دمشق باستدمر ومن المؤمني في حلب بمندمر الحوراني وأمره السلطان سنة إحدى وستين بغزو سيس وفتح أذنة وطرسوس والمصيصة في حصون أخرى وولى عليها ورجع فولاه السلطان نيابة دمشق مكان استدمر وولى على حلب أحمد بن القتمري. ثم عثر بدمشق سنة إحدى وستين على منجك بعد أن نال العقاب بسببه جماعة من الناس. فلما حضر عفا عنه السلطان وأمده وخيره في النزول حيث شاء من بلاد الشام. وأقام السلطان. بقية دولته مستبداً على رجال دولته وكان يأنس بالعلماء والقضاة ويجمعهم في بيته متبدلاً ويفاوضهم في مسائل العلم ويصلهم ويحسن إليهم ويخالطهم أكثر ممن سواهم إلى أن انقرضت دولته والبقاء لله وحده.
كان بيبقا هذا من موالي السلطان حسن وأعلاهم منزلة عنده وكان يعرف بالخاصكي نسبة إلى خواص السلطان. وكان الناصر قد رقاه في مراتب الدولة وولاه الإمارة ثم رفعه إلى الاتابكية وكان لجنوحه إلى الاستبداد كثيراً ما يبوح بشكاية مثل ذلك. فأحضره بعض الليالي بين حرمه وصرفه في جملة من الخدمة لبعض مواليه وقادها فأسرها بيبقا في نفسه واستوحش. وخرج السلطان سنة اثنتين وستين إلى كوم برى وضرب بها خيامه وأذن للخاصكي في مخيمه قريباً منه. ثم نمي عنه خبر الإنتقاض فأجمع القبض عليه واستدعاه فامتنع من الوصول وربما أشعره داعيه بالإسترابة فركب إليه الناصر بنفسه فيمن حضره من مماليكه وخواص أمرائه تاسع جمادى من السنة. وبرز إليه بيبقا وقد أنذر به واعتد له فصدقه القتال في ساحة مخيمه. وانهزم أصحاب السلطان عنه ومضى إلى القلعة وبيبقا في اتباعه فامتنع الحراس بالقلعة من إخافة طارقة جوف الليل فتسرب في المدينة واختفى في بيت الأمير ابن الأزكشي بالحسينية وركب الأمراء من القاهرة مثل ناصر الدين الحسيني وقشتمر المنصوري وغيرهما لمدافعة بيبقا فلقيهم ببولاق وهزمهم واجتمع ثانية وثالثة وهزمهم. وتنكر الناصر مع أيدمر الدوادار يحاولان النجاة إلى الشام واطلع عليهما بعض المماليك فوشى بهما إلى بيبقا فبعث من أحضره فكان آخر العهد به. ويقال إنه امتحنه قبل القتل فدله على أموال السلطان وذخائره وذلك لست سنين ونصف من تملكه. ثم نصب بيبقا للملك محمد بن المظفر حاجي ولقبه المنصور وقام بكفالته وتدبير دولته وجعل طنبغا الطويل رديفه. وولى قشتمر المنصوري نائباً وغشتمر أمير مجلس وموسى الازكشي أستاذ دار. وأفرج عن القاسمي وبعثه نائباً بالكرك وأفرج عن طاز وقد كان عمي فبعثه إلى القدس بسؤاله ثم إلى دمشق. ومات بها في السنة بعدها وأقر عجلان في ولاية مكة وولى على عرب الشام جبار بن مهنا وأمسك جماعة من الأمراء فحبسهم والله تعالى أعلم.
ولما اتصل بالشام ما فعله بيبقا وأنه استبد بالدولة. وكان استدمر نائباً بدمشق كما قدمناه امتعض لذلك وأجمع الانتقاض وداخله في ذلك مندمر وألبري ومنجك اليوسفي واستولى على قلعة دمشق. وسار في العساكر ومعه السلطان المنصور ووصل إلى دمشق واعتصم القوم بالقلعة. وترددت بينهما القضاة بالشام حتى نزلوا على الأمان بعد أن حلف بيبقا. فلما نزلوا إليه بعث بهم إلى الإسكندرية فحبسوا بها وولى الأمير المارداني نائباً بدمشق وقطلو بغا الأحمدي نائباً بحلب مكان أحمد بن القتمري بصفد وعاد السلطان المنصور وبيبقا إلى مصر والله سبحانه وتعالى أعلم.
قد تقدم لنا أن الخليفة المستكفي لما توفي قبل وفاة الملك الناصر عهد لابنه أحمد ولقبه الحاكم وأن الناصر عدل عنه إلى إبراهيم بن محمد عم المستكفي ولقبه الواثق. فلما توفي الناصر آخر سنة إحدى وأربعين وأغار الأمراء القائمون بالدولة والأمير أحمد الحاكم بن المستكفي ولي عهده فلم يزل في خلافته إلى أن هلك سنة ثلاث وخمسين لأول دولة الصالح سبط تنكز. وولى بعده أخوه أبو بكر بن المستكفي ولقب المعتضد. ثم توفي سنة ثلاث وستين لعشرة أعوام من خلافته وعهد إلى ابنه أحمد فولي مكانه ولقب المستكفي والله تعالى أعلم.
ثم بدا البيبقا الخاصكي في أمر المنصور محمد بن حاجي فخلعه استرابة به في شعبان سنة أربع وستين لسبعة وعشرين شهراً من ولايته ونصب مكانه شعبان بن الناصر حسن بن الملك الناصر وكان أبوه قد توفي في ربيع الآخر من تلك السنة. وكان آخر بني الملك الناصر فمات فولي ابنه شعبان ابن عشر سنين ولقبه الأشرف وتولى كفالته. وفي سنة خمس وستين عزل المارداني من دمشق وولى مكانه منكلي بغا نقله من حلب وولى مكانه قطلو بغا الأحمدي. وتوفي قطلو بغا فولى مكانه غشقتمر المارداني. ثم عزل غشقتمر سنة ست وستين فولى مكانه سيف الدين فرجي وأوعز إليه سنة سبع وستين أن يسير في العساكر لطلب خليل بن قراجا بن العادل أمير التركمان فيحضره معتقلاً فسار إليه وامتنع في خرت برت فحاصره أربعة أشهر واستأمن خليل بعدها وجاء إلى مصر فأمنه السلطان وخلع عليه وولاه ورجع إلى بلده وقومه والله تعالى أعلم.
كان أهل جزيرة قبرص من أمم النصرانية وهم من بقايا الروم وإنما ينتسبون لهذا العهد إلى الإفرنج لظهور الإفرنج على سائر أمم النصرانية. وإلا فقد نسبهم هروشيوش إلى كيتم وهم الروم عندهم ونسب أهل رودس إلى دوداتم وجعلهم أخوة كيتم ونسبهما معاً إلى رومان. وكانت على أهل قبرص جزية معلومة يؤدونها لصاحب مصر وما زالت مقررة عليهم من لدن فتحها على يد معاوية أمير الشام أيام عمر. وكانوا إذا منعوا الجزية يسلط صاحب الشام عليهم أساطيل المسلمين فيفسدون مراسيها ويعيثون في سواحلها حتى يستقيموا لأداء الجزية. وتقدم لنا آنفاً في دولة الترك أن الظاهر بيبرس بعث إليها سنة تسع وستين وستمائة أسطولاً من الشواني وطرقت مرساها ليلاً فتكسرت لكثرة الحجارة المحيطة بها في كل ناحية. ثم غلب لهذه العصور أهل جنوة من الإفرنج على جزيرة رودس حازتها من يد لشكري صاحب القسطنطينية سنة ثمان وسبعمائة وأخذوا بمخنفها. وأقام أهل قبرص معهم بين فتنة وصلح وسلم وحرب آخر أيامهم. وجزيرة قبرص هذه على مسافة يوم وليلة في البحر قبالة طرابلس منصوبة على سواحل الشام ومصر. واطلعوا بعض الأيام على غرة في الإسكندرية وأخبروا حاجبهم وعزم على انتهاز الفرصة فيها فنهض في أساطيله واستنفر من سائر الإفرنج ووافى مرساها سابع عشر من المحرم سنة سبع وستين في أسطول عظيم يقال بلغ سبعين مركباً مشحونة بالعدة وبالعدد ومعه الفرسان المقاتلة بخيولهم. فلما أرسى بها قدمهم إلى السواحل وعبى صفوفه وزحف وقد غص الساحل بالنظارة برزوا من البلد على سبيل النزهة لا يلقون بالاً لما هو فيه ولا ينظرون مغبة أمره لبعد عهدهم بالحرب وحاميتهم يومئذ قليلة وأسوارهم من الرماة المناضلين دون الحصون خالية. ونائبها القائم بمصالحها في الحرب والسلم وهو يومئذ خليل بن عوام غائب في قضاء فرضه فما هو إلا أن رجعت تلك الصفوف على التعبية ونضحوا العوام بالنبل فأجفلوا متسابقين إلى المدينة وأغلقوا أبوابها وصعدوا إلى الأسوار ينظرون ووصل القوم إلى الباب فأحرقوه واقتحموا المدينة واضطرب أهلها وماج بعضهم في بعض. ثم أجفلوا إلى جهة البر بما أمكنهم من عيالهم وولدهم وما اقتدروا عليه من أموالهم وسالت بهم الطرق والأباطح ذاهبين في غير وجه حيرة ودهشة. وشعر بهم الأعراب أهل الضاحية فتخطفوا الكثير منهم وتوسط الإفرنج المدينة ونهبوا ما مروا عليه من الدور وأسواق البر ودكاكين الصيارفة ومودعات التجار وملأوا سفنهم من المتاع والبضائع والذخيرة والصامت واحتملوا ما استولوا عليه من السبي والأسرى وأكثر ما فيهم الصبيان والنساء. ثم تسايل إليهم الصريخ من العرب وغيرهم فانكفأ الإفرنج إلى أساطيلهم وانكمشوا فيها بقية يومهم وأقلعوا من الغد. وطار الخبر إلى كافل الدولة بمصر الأمير بيبقا فقام في ركائبه وخرج لوقته بسلطانه وعساكره ومعه ابن عوام نائب الإسكندرية منصرفة من الحج وفي مقدمته خليل بن قوصون وقطلو بغا الفخري من أمرائه وعزائمهم مرهفة ونياتهم في الجهاد صادقة حتى بلغهم الخبر في طريقهم بإقلاع العدو فلم يثنه ذلك واستمر إلى الإسكندرية وشاهد ما وقع بها من معرة الخراب وآثار الفساد فأمر بهدم ذلك وإصلاحه ورجع أدراجه إلى دار الملك وقد امتلأت جوانحه غيطاً وحنقاً على أهل قبرص فأمر بإنشاء مائة أسطول من الأساطيل التي يسمونها القربان معتزماً على غزو قبرص فيها بجميع من معه من عساكر المسلمين بالديار المصرية واحتفل في الاستعداد لذلك واستكثر من السلاح وآلات الحصار وكمل غرضه من ذلك كله في رمضان من السنة لثمانية أشهر من الشروع فيه فلم يقدر على تمام غرضه من الجهاد لما وقع من العوائق كما نقصه والله تعالى ولي التوفيق. ثورة الطويل ونكبته كان طنبغا الطويل من موالي السلطان حسن وكانت وظيفته في الدولة أمير سلاح وهو مع ذلك رديف بيبقا في أمره وكان يؤمل الاستبداد ثم حدثت له المنافسة والغيرة من بيبقا كما حدثت لسائر أهل الدولة عندما استكمل أمره واستفحل سلطانه وداخلوا الطويل في الثورة وكان دوادار السلطان أرغون الأشقري وأستاذ دار المحمدي. وبينا هم في ذلك خرج الطويل للسرحة بالعباسية في جمادى سنة سبع وستين وفشا الأمر بين أهل الدولة فنمي إلى بيبقا واعتزم على إخراج الطويل إلى الشام وأصدر له المرسوم السلطاني بنيابة دمشق وبعث به إليه وبالخلعة على العادة مع أرغون الأشقري الدوادار وروس المحمدي أستاذ دار من المداخلين له ومعه أرغون الأرفي وطنبغا العلائي من أصحاب بيبقا فردهم الطويل وأساء إليهم. وواعد بيبقا قبة النصر ثم شفع للسلطان في الطويل في شهر شعبان من السنة وبعثه إلى القدس ثم أطلق الأشقري والمحمدي وبعث بهما إلى الشام وولى مكان الطويل طيدمر الباسلي ومكان الأشقري في الدويدارية طنبغا الأبي بكري. ثم عزله بيبقا العلائي وولى مكانه روس العادل المحمدي. وكان جماعة من الأمراء أهل وظائف في الدولة قد خرجوا مع الطويل وحبسوا فولى في وظائفهم أمراء آخرين ممن لم تكن له وظيفة واستدعى منكلي بيبقا الشمسي نائب دمشق إلى مصر يطلبه فقدم نائباً بحلب مكان سيف الدين برجي وآذن له في الاستكثار من العساكر وجعلت رتبته فوق نائب دمشق وولى مكانه بدمشق اقطمر عبد العزيز انتهى والله تعالى أعلم. المماليك ثورة المماليك ببيبقا ومقتله واستبداد استدمر كان طنبغا قد طال استبداده على السلطان وثقلت وطأته على الأمراء وأهل الدولة وخصوصاً على مماليكه وكان قد استكثر من المماليك وأرهف حده لهم في التأديب وتجاوز الضرب فيهم بالعصا إلى جدع الأنوف واصطلام الآذان فكتموا الأمر في نفوسهم وضمائرهم لذلك وطووا على الغش وكان كبير خواصه استدمر واقتفان الأحمدي ووقع في بعض الأيام بمثل هذه العقوبة في أخي استدمر فاستوحش له وارتاب وداخل سائر الأمراء في الثورة يرون فيها نجاتهم منهم. وخلصوا النجوى مع السلطان فيه واقتضوا منه الإذن. وسرح السلطان بيبقا إلى البحيرة في عام ثمان وسبعين وانعقد هؤلاء المماليك المتفاوضون في الثورة بمنزل الطرانة وبيتوا له فيها ونمي إليه خبرهم ورأى العلامات التي قد أعطيها من أمرهم فركب مركباً في بعض خواصه وخاض النيل إلى القاهرة وتقدم إلى نواتية البحر أن يرسوا سفنهم عند العدوة الشرقية ويمنعوا العبور كل من يرومه العدوة الغربية. وخالفه استدمر واقتفان إلى السلطان في ليلتهم وبايعوه على مقاطعة بيبقا ونكبته ولما وصل بيبقا إلى القاهرة جمع من كان بها من الأمراء والحجاب من مماليكه وغيرهم وكان بها أيبك البدري أمير ماخورية فاجتمعوا عليه. وكان يقتمر النظامي وأرغون ططن بالعباسية سارحين فاجتمعوا إليه فخلع الأشرف ونصب أخاه أتوك ولقبه المنصور وأحضر الخليفة فولاه واستعد للحرب وضرب مخيمه بالجزيرة الوسطى على عدوة البحر. ولحق به من كانت له معه صاغية من الأمراء الذين مع السلطان بصحابة أو أمر أو ولاية مثل بيبقا العلائي الدوادار ويونس الرمام وكمشيقا الحموي وخليل بن قوصون ويعقوب شاه وقرابقا البدري وابتغا الجوهري. ووصل السلطان الأشرف من الطرانة صبيحة ذلك اليوم على التعبية قاصداً دار ملكه وانتهى إلى عدوة البحر فوجدها مقفرة من السفن فخيم هنالك وأقام ثلاثاً وبيبقا وأصحابه قبالتهم بالجزيرة الوسطى ينضحونهم بالنبل ويرسلون عليهم الحجارة من المجانيق وصواعق الأنقاط وعوالم النظارة في السفن إلى أن تتوسط فيركبونها ويحركونها بالمجاذيف إلى ناحية السلطان حتى كملت منها عدة وأكثرها من القربان التي أنشأها بيبقا وأجاز فيها السلطان وأصحابه إلى جزيرة الفيل. وسار على التعبية وقد ملأت عساكره وتابعه بسيط الأرض وتركم القتام بالجو وغشيت سحابة موكب بيبقا وأصحابه فتقدموا للدفاع وصدقتهم عساكر السلطان القتال فانفضوا عن بيبقا وتركوه أوحش من وتد في قلاع فولى منهزماً ومر بالميدان فصلى ركعتين عند بابه واستمر إلى بيته والعوام ترجمه في بطريقه. وسار السلطان في تعبيته إلى القلعة ودخل قصره وبعث عن بيبقا فجيء به واعتقل بحبس القلعة سائر يومه. فلما غشي الليل ارتاب المماليك بحياته وجاؤوا إلى السلطان يطلبونه وقد اضمروا الفتك به وأحضره السلطان. وبينما هو مقبل على التضرع للسلطان ضربه بعضهم فأبان رأسه وارتاب من كان منهم خارج القصر في قتله فطلبوا معاينته ولم يزالوا يناولون رأسه من واحد إلى واحد حتى رماه آخرهم في مشعل كان بازائه. ثم دفن وفرغ من أمره وقام بأمر الدولة استدمر الناصري ورديفه بيبقا الأحمدي ومعهما بحماس الطازي وقرابقا السرغتمشي وتغري بردي المتولون كبر هذه الفعلة. وتقبضوا على الأمراء الذين عدلوا عنهم إلى بيبقا فحبسوهم بالإسكندرية. وقد مر ذكرهم وعزل خليل بن قوصون وألزم بيته وولوا أمراء مكان المحبوسين وأهل وظائف من كانت له. واستقر أمر الدوة على ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم. ثم تنافس هؤلاء القائمون بالدولة وحبسوا قرابقا السرغتمشي صاحبهم وامتعض له تغري بردي وداخل بعض الأمراء في الثورة ووافقه أيبك البدري وجماعة معه وركب منتصف رجب سنة ثمان وستين للحرب فركب له استدمر وأصحابه فتقبضوا عليهم وحبسوهم بالإسكندرية وعظم ظغيان هؤلاء الأجلاب وكثر عيثهم في البلد وتجاوزهم حدود الشريعة والملك. وفاوض السلطان أمراءه في شأنهم فأشاروا بمعاجلتهم وحسم دائهم فنبذ السلطان إليهم العهد وجلس على كرسيه بالأساطيل وتقدم إلى الأمراء بالركوب فركب الجائي اليوسفي وطغتمر النظامي وسائر أمراء السلطان ومن استخدموه من مماليك بيبقا وتحيز إليهم أيبقا الجلب وبحماس الظازي عن صاحبهما استدمر. وركب لقتالهم استدمر وأصحابه وسائر الأجلاب وحاصروا القلعة إلى أن خرج عند الطلحساه السلطانية فاختل مركز الأمراء وفارقهم وثبت الجائي اليوسفي وأرغون التتر في سبعين من مماليكهم فوقفوا قليلاً ثم انهزموا إلى قبة النصر وقتل دروط ابن أخي الحاج الملك وقبض على أيبقا الجلب جريحاً وعلى طغتمر النظامي وعلى بحماس الطازي والجائي اليوسفي وأرغون التتر وكثير من أمراء الألوف ومن دونهم. واستولى استدمر وأصحابه الأجلاب على السلطان كما كانوا وولى مكان المحبوسين من الأمراء وأهل الوظائف وعاد خليل بن قوصون على إمرته. وعزل قشتمر عن طرابلس وحبس بالإسكندرية واستبدل بكثير من أمراء الشام واستمر الحال على ذلك بقية السنة والأجلاب على حالهم في الإستهتار بالسلطان والرعية. فلما كان محرم سنة تسع وستين عادوا إلى الأجلاب على الدولة فركب أمراء السلطان إلى استدمر يشكونهم ويعاتبونهم في شأنهم فقبض على جماعة منهم كسر بهم الفتنة وذلك يوم الأربعاء سادس صفر فلما كان يوم السبت وعاودوا الركوب ونادوا بخلع السلطان فركب السلطان في مماليكه ونحو المائتين. والتف عليهم العوام وقد حنقوا على الأجلاب بشراشرهم فيهم. وركب استدمر في الأجلاب على التعبية وهم ألف وخمسمائة وجاؤوا من وراء القلعة على عادتهم حتى شارفوا القوم فأحجموا ووقفوا وأدلفتهم الحجارة من أيدي العوائم بالمقاليع وحملت عليهم العساكر فانهزموا وقبض على أبقا السرغتمشي وجماعة معه فحبسوا بالخزانة. ثم جيء باستدمر أسيراً وشفع فيه الأمراء فشفعهم السلطان وأطلقه باقياً على أتابكيته ونزل إلى بيته بقبض الكيس. وكان خليل بن قوصون تولى أتابكاً في تلك الفترة فأمره السلطان أن يباكر به لحبسه من الغد فركب خليل إلى بيته وحمله على الأنتقاض على أن يكون الكرسي لخليل بعلاقة نسبته إلى الملك الناصر من أمه. فاجتمع منهم جماعة من الأجلاب وركبوا بالرميلة فركب إليهم السلطان والأمراء في العساكر فانهزموا وقتل كثير منهم. وبعثوا بهم إلى الإسكندرية فحبسوا بها وقتل كثير ممن أسر في تلك الواقعة منهم وطيف بهم على الجمال في أقطار المدينة. ثم تتبع بقية الأجلاب بالقتل والحبس بالثغور القاصية وكان ممن حبس منهم بالكرك برقوق العثماني الذي ولي الملك بعد ذلك بمصر وبركه الجولاني وطنبغا الجوباني وجركس الخليلي ونعنع وأقاموا كلهم متلفين بين السجن والنفي إلى أن اجتمع شملهم بعد ذلك كما نذكره. واستبد السلطان بأمره بعض الشيء وأفرج عن الجائي اليوسفي وطغتمر النظامي وجماعة من المسجونين من أمرائه وولى الجائي أمير سلاح وولى بيبقا المنصوري وبكتمر المحمدي من أمراء الأجلاب في الأتابكية شريكين. ثم نمي عنهما أنهما يرومان الثورة وإطلاق المسجونين من الأجلاب والاستبداد على السلطان فقبض عليهما. وبعث عن منكلي بغا الشمسي من حلب وأقامه في الأتابكية. واستدعى أمير علي المارداني من دمشق وولاه النيابة وولى في جميع الوظائف وكان منهم مولاه أرغون الأشرفي. وما زال يرقيه في الوظائف إلى أن جعله أتابك دولته وكان خالصته كما سنذكر. وولى على حلب مكان منكلي بغا طنبغا الطويل وعلى دمشق مكان المارداني بندمر الخوارزمي. ثم اعتقله وصادره على مائة ألف دينار ونفاه إلى طرطوس وولى مكانه منجك اليوسفي نقله إليها من طرابلس وأعاد إليها غشقتمر المارداني كما كان قبله. ثم توفي طنبغا الطويل بحلب آخر سنة تسع وستين بعد أن كان يروم الانتقاض فولى مكانه استبغا الأبو بكري. ثم عزله سنة سبعين وولى مكانه قشتمر المنصوري والله تعالى ولي التوفيق بمنه وفضله.
كان جماز بن مهنا أمير العرب من آل فضل قد انتقض وولى السلطان مكانه ابن عمه نزال بن موسى بن عيسى واستمر جماز على خلافه ووطئ بلاد حلب أيام المصيف واجتمع إليه بنو كلاب وامتدت أيديهم على السابلة فخرج إليهم نائب حلب قشتمر المنصوري في عساكره فأغار على أحيائه واستاق نعمهم ومواشيهم وشره إلى اصطلامهم فتذامروا دون أحيائهم وكانت بينه وبينهم جولة أجلت عن قشتمر المنصوري وابنه محمد قتيلين ويقال قتلهما يعبر بن جماز ورجعت عساكر الترك منهزمين إلى حلب وذهب جماز إلى القفر ناجياً به وولى السلطان على العرب معيقيل بن فضل. ثم استأمن له جماز بن مهنا وعاود الطاعة فأعاده السلطان إلى إمارته والله تعالى أعلم. استبداد الجائي اليوسفي ثم انتقاضه ومقتله لما أذهب السلطان الأشرف أثر الأجلاب من دولته وقام بعض الشيء بأمره فاستدعى منكلي بغا من حلب وجعله أتابكاً وأمير علي المارداني من دمشق وجعله نائباً. وولى الجائي اليوسفي أمير سلاح وولى أصبغا عبد الله دوادار بعد أن كان الأجلاب ولوا في الدوادارية منهم واحداً بعد واحد. ثم سخطه وولى مكانه أقطمر الصباحي وعمر سائر الخطط السلطانية بمن وقع عليه اختياره ورقى مولاه أرغون شاه في المراتب من واحدة إلى أخرى إلى أن أربى به على الأتابكية كما يأتي. وولى بهادر الجمالي أستاذ دار ثم أمير الماخورية تردد بينهما. ثم استقر آخراً في الماخورية وولى محمد بن اسقلاص أستاذ دار وولى بيبقا الناصري بالحجابة بعد وظائف أخرى نقله منها. وزوج أمه الجائي اليوسفي فعلت رتبته بذلك في الدولة واستغلظ أمره وأغلظ له الدوادار يوماً في القول فنفي وولى مكانه منكوتمر عبد الغني. ثم عزل سنة اثنتين وسبعين لسنة من ولايته وولى السلطان مكانه طشتمر العلائي الذي كان دوادار البيبقا واستقرت الدولة على هذا النمط والجائي اليوسفي مستبد فيها ووصل وفود منجك من الشام سنة أربع وسبعين بما لا يعبر عنه. اشتمل على الخيل والبخاتي المجللة والجمال والهجن والقماش والحلاوات والحلي والطرف والمواعين حتى كان فيها من الكلاب الصائدة والسباع والإبل ما لم ير مثله في أصنافه. ثم وصل وفود قشتمر المارداني من حلب على نسبة ذلك والله تعالى أعلم.
من بعده لم تزل الدولة مستقرة على ما وصفناه إلى أن هلك الأمير منكلي بغا بالأتابك منتصف سنة أربع وسبعين واستضاف الجائي اليوسفي الأتابكية إلى ما كان بيده ورتبته أشد من ذلك كله وهو القائم المستبد بها. ثم توفيت أم السلطان وهي في عصمته فاستحق منها ميراثاً دعاه لؤم الأخلاق فيه إلى المماحكة في المخلف وتجافى السلطان له عن ذلك إلا أنه كان ضيق الصدر شرس الأخلاق فكان يغلظ القول بما يخشن الصدور فأظلم الجو بينه وبين السلطان وتمكنت فيه السعاية. وذكرت بهذه انتقاضه الأول وذلك أنه كان سخط في بعض النزعات على بعض العوام من البلد فأمر بالركوب إلى العامة وقتلهم فقتل منهم كثير ونمي الخبر إلى السلطان على ألسنة أهل البصائر من دولته وعدلوه عنده فاستشاط السلطان وزجره وأغلظ له فغضب وركب إلى قبة النصر منتقضاً. وذهب السلطان في مداراة أمره إلى الملاطفة واللين. وكان الأتابك منكلي بغا يرم ذاك حياً فأوعز السلطان إليه فرجع وخلع عليه وأعاده إلى أحسن ما كان. فلما بدرت هذه الثانية حذر السلطان بطانته من شأنه وخرج هو منتقضاً وركب في مماليكه بساحة القلعة. وجلس السلطان وترددت الرسل بينهما بالملاطفة فأصر واستكبر ثم أذن السلطان لمماليكه في قتاله وكان أكثرهم من الأجلاب مماليك بيبقا وقد جمعهم السلطان واستخدمهم في جملة ابنه أمير علي ولي عهده فقاتلوه في محرم سنة خمس وتسعين وكان موقفه في ذلك المعترك إلى حائط الميدان المتصل بالأساطيل فنفذت له المقاتلة من داخل الأساطيل ونضحوه بالسهام فتنحى عن الحائط حتى إذا حل مركزه ركبوا خيولهم وخرجوا من باب الأساطيل. وصدقوا عليه الحملة فانهزم إلى بركة الحبش ورجع من وراء الجبل إلى قبة النصر فأقام بها ثلاثاً والسلطان يراوضه وهو يشتط وشيعه يتسللون عنه. ثم بعث إليه بالسلطان لمة من العسكر ففر أمامهم إلى قليوب واتبعوه فخاض البحر وكان آخر العهد به. ثم أخرج شلوه ودفن وأسف السلطان لمهلكه ونقل أولاده إلى قصره ورتب لهم ولحاشيته الأرزاق في ديوانه. وقبض على من اتهمه بمداخلته وأرباب وظائفه فصودروا كلهم وعزلوا وغربوا إلى الشام. واستبد السلطان بأمره واستدعى القري الدوادار وكان نائباً بطرابلس فولاه أتابكاً مكان الجائي ورفع رتبته. وولى أرغون شاه وجعله أمير مجلس وولى سرغتمش من مواليه أمير سلاح واختص بالسلطان طشتمر الدوادار وناصر الدين محمد بن اسقلاص أستاذ دار فكانت أمور الدولة منقسمة بينهما وتصاريفها تجري بسياستهما إلى أن كان ما نذكره والله تعالى ولي التوفيق.
|